في العام الحادي عشر من البعثة، وفي موسم الحج بالتحديد، كان النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- يعرض نفسه على القبائل لينصروا دعوته، فعرض نفسه على مجموعة من شباب الخزرج ودعاهم إلى الإسلام، فأخبروه أن بينهم وبين إخوانهم من الأوس حروباً ونزاعاتٍ، لعلّ الله يجمع كلمتهم بهذه الدعوة المباركة، فعاد هؤلاء الرهط إلى المدينة، ودعوا قومهم إلى الإسلام، فبدأ الإسلام ينتشر في بيوت المدينة.
وفي العام الثاني عشر من البعثة، أتى وفد جديد من المدينة بلغ عدد أفراده اثنا عشر رجلاً؛ خمسة منهم من الستة الذين كانوا في العام الماضي، فبايعوا النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم - البيعة المشهورة بألا يشركوا بالله شيئاً، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، إلى آخر الشروط المذكورة في كُتُب الحديث، وبعدما انتهت بيعة العقبة الأولى، أرسل النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- مصعباً بن عمير إلى المدينة يدعو أهلها إلى الإسلام، فدخل الإسلام بيوت المدينة، ووجد المهاجرون موئلاً لهم بين إخوانهم من الأنصار.
تضمنت بيعة العقبة الأولى مجموعة من البنود التي بايع عليها النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- صحابته، ثم أخبرهم أنّ من وَفَى منهم فأجره على الله تعالى، ومن أصاب شيئاً من تلك المحظورات فعوقب عليه في الحياة الدنيا فهذا العقاب كفّارة له، أمّا من أصاب من ذلك شيئاً فلم يُعاقَب به في الدنيا فأمره إلى الله سبحانه، وهذه البنود هي:
توحيد الله -سبحانه وعدم الشرك به.
الامتناع عن:
السرقة.
الزنا.
قتل الأولاد.
الإتيان ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم.
إتيان المعصية في معروف.
كانت بنود بيعة العقبة الأولى ذات أهمية كبيرة في تشكيل نواة أساسية للدولة الإسلاميّة الناشئة، ومن أهم الدلالات التي تحملها بنودها:
تركيز النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم - ابتداءً على القضية الأساسيةِ المحورية في هذا الدين، وهي قضية توحيد الله سبحانه، والأخذ منه وحده، وتقديمه على كلّ ما عداه. تركيز النبيّ -عليه الصلاة والسلام- في البنود على قضايا أخلاقية محورية فيه دلالة على أهمية الأخلاق في إقامة الدول والحضارات، فالأخلاق هي التي تسمو بالمجتمع قبل أي شيء آخر.
تركيز النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في البند الأخير على الطاعة ثم تقييدها بالمعروف، يدل أولاً على أهمية طاعة النبيّ -عليه الصلاة والسلام- في أوامره ونواهيه قرآناً وسنة؛ فالمجتمع الإسلامي يقوم على الطاعة لهذا النبيّ المُبلّغ عن ربه، ثم تقييده -عليه السلام- الطاعة بالمعروف مع أنه لا يأمر إلا بخير، فيه تأسيس للمبدأ الذي يقوم عليه مفهوم الطاعة في هذه الأمة إلى قيام الساعة؛ لأنّ القائد بعد النبيّ -عليه الصلاة والسلام- سيكون بشراً يصيب ويخطئ، فوضع النبيّ -عليه السلام- تأصيلاً شاملاً لمفهوم الطاعة في الدولة الإسلامية؛ أنّه طاعة في المعروف فقط، والمعروف هو ما جاء عن الله -سبحانه- أو نبيّه عليه السلام.
عدم تطرق النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- إلى موضوع الجهاد في هذه البيعة فيه دلالة على التربية المتدرّجة التي كان الصحابة يربون عليها، فالأنصار ما زالوا حديثي عهدٍ بهذا الدين، ولم يكن بينهم من يعلمهم أحكام الجهاد ويُنشئهم عليه، فلم يستعجل النبيّ -عليه السلام- نقلهم إلى هذه المرحلة، بل اكتفى بالجوانب الأساسية التي تهمّهم فيها، خاصّةً أنّ المدينة ومكة لم تكونا مستعدتين للدخول في صراعات عسكرية فيها، ومن جانبٍ آخر فإنّ شوكة المسلمين ما زالت ضعيفة، ولم يكتمل بناء الدولة بعد.
الثمن الذي وعد النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- به أصحابه هو الجنّة فقط، فلم يعدهم بالدنيا وأموالها وزخارفها، ولم يعدهم بالراحة، بل وعدهم بكلمة واحدة هي التي ينبغي أن يتربّى الجيل الصاعد عليها، وهي الجنّة وليس أي شيء آخر سواها.
احتلّ الصحابة الذين شاركوا في بيعة العقبة الأولى مكانةً ساميةً في التاريخ الإسلامي، كونهم بايعوا على معاهدةٍ عظيمة كان لها أثر كبير في تحول مسيرة الدعوة الإسلاميّة فيما بعد، وهؤلاء الصحابة هم: أسعد بن زرارة الخزرجي، وعوف بن الحارث الخزرجي، ورافع بن مالك الخزرجي، وذكوان بن عبد القيس الخزرجي، وقطبة بن عامر الخزرجي، وعقبة بن عامر الخزرجي، ومعاذ بن الحارث الخزرجي، وعبادة بن الصامت الخزرجي، ويزيد بن ثعلبة الخزرجي، وأبو الهيثم بن التيهان الأوسي، وعويم بن ساعدة الأوسي، والعباس بن عبادة الخزرجي، وهؤلاء الصحابة الاثنا عشر؛ عشرة منهم من الخزرج واثنان فقط من الأوس، وهذا فيه دلالة على أنّ النزاعات التي كانت قائمة بين الأوس والخزرج تلاشت في سبيل قيام هذه الدعوة الجديدة.