ما أجمل تلك القصة التي نرويها لاطفالنا قبل النوم، لترسخ في عقولهم فكرة وهدفا ساميا، لتعلمهم شيء وفكرة جديدة دون الزامهم بتنفيذها، لتترسب في عقلهم الباطن ليحاولوا تحقيقها إنها حقا شيء هام ومفيد أن تقص على مسامع طفلك حكاية مفيدة لها هدف وغرض قبل أن ينام ليحلم بها في نومه ويحاول تحقيقها.
كان عمي صالح رجلاً حكيماً وتاجراً أميناً، يعرف كيف يجمع المال الحلال وكيف ينفقه دون إسراف.
تكونت لديه ثروة كبيرة، ولما أحس باقتراب أجله أوصى ابنه الوحيد بحسن التدبير وحذره من أصحاب السوء والتبذير.
بعد وفاة أبيه لم يعمل بنصيحته، وراح ينفق النقود بطريقة حمقاء جعلتها تنفد كلها في وقت قصير، فأصبح فقيراً، فابتعد الناس عنه وتركوه متخبطا في متْربته، بلا صدیق ولا أنيس.
ولما استولى عليه الحزن خرج إلى فناء الدار مهموما، فجلس على صندوق مهمل في إحدى الزوايا.
فجأة تحرك الصندوق وراح يرتفع رويداً رويدا عن الأرض، فأمسك به الشاب بكل قواه لكي لا يسقط، وها هو ينظر مندهشاً إلى الأسفل.. ليرى البحر ذلك العالم الأزرق، والسُّفن الجاريات والراسيات، والأنهار، والناس… إنّه لشيء عجاب.
وبعد مسافة كبيرة هبط الصندوق برفق ببُستان قصر باهر. تزل الشاب وراح مسرعاً يجمع الأغصان والجريد وخبّا الصندوق، ثم تقدم إلى حارس وطلب منه مقابلة صاحب القصر، فأدخله في الحين وكان سلطان تلك البلاد.. استقبل السلطان الفتى بحفاوة بالغة وأكرمه وأحسن ضيافته واستمع له، فاغتر الشاب غروراً كبيراً وراح يفتخر بثروة زعم امتلاكها قد تساوي ثروة السّلْطنة، ويتظاهر كسائح انتقل كثيراً، أبهر الناس بما شهد من عجائب واكتشف من أوطان.
بقي الشاب في المملكة أیّاماً، وكان كلّما التقى جمعاً راح يسرد عليه الحكايات الطريفة والعجيبة التي تزعم أنها وقعت له، وما هي في الحقيقة إلاّ ادعاءات وأكاذيب؛ ولكنه استطاع أن يوهم بها كل مُستمعيه الذين راحوا ينسجون له صورا من البطولة فتخيّلوه بطلا صنديدا.. ومن حين لآخر كانت ابنة السلطان تستمع إلى تلك الحكايات فأعجبت بها فتوسلت إلى أبيها ليزوجها منه، فوافق على طلبها، قرّر الملك دعوة كل من في المملكة لحضور زفاف ابنته، فأعلن ذلك وأمر بالاستعداد لذلك اليوم السعيد.
وبعد أيام من التحضيرات أقيم حفل الزّفاف وأعدّت موائد الطعام وأطلقت الألعاب النارية في كل أرجاء المدينة، ذهب الشاب أثناءها ليتفقد صندوقه السّحري وإذا بقتيل مشتعلٍ يسقط على مكانه فاشتعل بسرعة مذهلةٍ، وامتدّت النّار إلى الصّندوق فأحرقته وأحرقت معه آمال الشاب. يا لها من صدمة! الوسيلة الوحيدة التي كان يعتمد عليها صارت رماداً! فغادر القصر هارباً متخفياً حتى لا يكشف الناس زيفه. ألم يورّط نفسه بالكذب؟ ألم يكن مختالاً فخوراً؟ وبينما كانت الأميرة تعاني من إخفاق مشروع الزواج صار الفتى يهيم من مكان لآخر جائعاً متشرداً حافي القدمين وبملابس رثة وممزقة .
وفي هذه المحنة بدأ يعرف نفسه، ويراجع مواقفه؛ فالكذبُ لا ينفع والصّدق هو الأصحّ وأنّ الأفيِخار غرور وأن العمل هو الشّرف وأن المال الذي لا يكسب بعرق الجبين يذهب سدی.. وبعد أن عمل في المزارع والورشات، ها هو الآن يشتغل عند حدّاد، وقد حوّله عمله الشاق إلى فتى جدّي ومخلص ومسرور.
وذات مرة وهو يجمع الحديد الخام من منجم خارج المدينة، عثر على سامة ذهب، فاستخرج كثيرا منه ووضعه في العربة وغطاه بالمعادن الأخرى، ثم أوصله إلى الحداد الذي استطاع بمهارته أن يجعل من التبر ذهباً خالصاً.. ومنذ ذلك اليوم تخصّص الاثنان في الصّياغة؛ يصنعان كل أنواع الحلي، فازدهرت صناعتهما وصارا أثرياء.
وذات يوم أخبر الشاب الحداد بقصّته مع السلطان، فشجّعه هذا الأخير على العودة إلى القصر. وبعد أن صنعا تاجاً للسلطان وآخر للأميرة وجمعا الهدايا وجهّزا قافلة اتّجها نحو المملكة فاستقبلهما الملك بحفاوة، وفرح بالهدايا والتّاجين، ولما علمت الأميرة التي مرضت من صدمة فشل الزواج في السنة الماضية استعادت عافيتها وصحتها وفرحت برجوع الفتى الهارب الذي صار صالحاً مخلصاً ومحترفاً بارعاً. جدد الحداد الخطبة فقبل الملك وتم الزواج وفرح الناس وسعد الشّاب والأميرة.