في يوم من أيام الشتاء الباردة، حيث كانت ندفات الثلج تتساقط من الغيوم كأنها ريش حمامٍ أبيض، جلست إحدى الملكات إلى نافذة قصرها، مستمتعة بالمنظر الجميل، ومسليّة نفسها بخياطة بعض قطع القماش. ولمّا استغرقت في النظر إلى الثلج نسيت أن الإبرة في يدها، وأخرجت يديها من النافذة لتلمس الثلج، فوخزت إصبعها، وسقطت قطرات الدم منه على الثلج.
لما رأت الملكة حمرة الدم فوق بياض الثلج، سُرّت نفسها من المشهد، وصلّت أن ترزق طفلةً بيضاء كالثلج، وأن تكون لها شفتان حمراوان كحمرة الدم، وشعراً أسود كسواد خشب الأبنوس الذي كان إطار النافذة مصنوعاً منه. لم يمض وقت طويل على ذلك الموقف، حتّى استُجيبت صلاتها، وأنجبت طفلةً بالصفات نفسها التي تمنّتها، إلّا أن الملكة تُوفّيت بعد ولادة الطفلة مباشرةً.
وبعد عامٍ من وفاة الملكة تزوّج الملك مرّةً أخرى من امرأةٍ فاتنة الجمال، إلّا أنّها كانت متكبّرةً ومتعجرفةً وحسودةً إلى درجة أنّها كانت لا تُطيق أن ترى امرأةً أخرى جميلةً غيرها. وكانت لهذه الملكة الجديدة مرآةٌ سحريّة، تقف أمامها كل يومٍ محدّقةً بها، وتسألها: "يا مرآتي يا مرآتي، أخبريني، من هي أجمل امرأةٍ في الدنيا؟" وكانت تأتي الإجابة من المرآة دائماً: "أنت الأجمل بين النساء على الإطلاق"، وكان هذا الحوار اليومي يُشعر الملكة بالرضا والراحة، فهي تعلم جيّداً أن المرآة لا يمكن أن تكذبها القول.
بقي الحال كذلك إلى أن جاء يومٌ وقفت فيه الملكة كعادتها أمام مرآتها السحرية وسألتها: من هي أجمل امرأةٍ في الدنيا؟ ولكن هذه المرّة أجابت المرآة قائلةً: أنت جميلةٌ جدّاً أيتها الملكة، ولكن بياض الثلج أجمل. صُعقت الملكة من إجابة المرآة، ومنذ تلك اللحظة لم تتوقّف عن كره بياض الثلج لحظةً واحدةً.
كره الملكة المتزايد لبياض الثلج قادها إلى أن تطلب من أحد الصيّادين أن يأخذ بياض الثلج إلى الغابة ويقتلها بسكينه بين الأحراش، وطلبت منه أن ينتزع قلب بياض الثلج من صدرها ويحضره لها كدليلٍ يُثبت أنه قام بقتلها فتعطيه مكافأةً، وبالفعل تناول الصياد سكينه وأخذ بياض الثلج إلى الغابة الكائنة خلف الجبال ليقتلها. وعندما وصل الصياد إلى المكان المنشود في الغابة، بدأت بياض الثلج بالبكاء الشديد، وأخذت تتوسّل إليه بأن يتركها في الغابة بدلاً من أن يقتلها، ووعدته أنها لن ترجع إلى القصر. وقد تأثر الصياد ببكاء بياض الثلج، لا سيّما وهي الفتاة الجميلة اللّطيفة، فرقّ قلبه ووضع السكين جانباً مطلقاً سراح بياض الثلج في الغابة، واصطاد غزالاً بريّاً، وأخذ قلبه، وقفل راجعاً به إلى قصر الملكة الشرّيرة، وأراها القلب وأخبرها أنه قلب بياض الثلج، فحصل على مكافأته منها.
وجدت الصغيرة المسكينة نفسها وحيدةً في الغابة، وكانت خائفةً من الأشجار الكثيفة، كما هابت هجوم الحيوانات المفترسة عليها، ولم يكن منها إلا أن بدأت بالركض فوق الحصى الحاد والصخور المدبّبة، وبين الغصون والأشواك، كما أن حيوانات بريّة أخذت تقفز حولها من هنا وهناك ولكن دون أن تؤذيها، فأطلقت بياض الثلج ساقيها للريح راكضةً بأسرع ما تستطيع، وبقيت هكذا إلى أن اقترب حلول المساء، وعندئذٍ رأت بياض الثلج كوخاً صغيراً، فقرّرت أن تدخله لتأخذ قسطاً من الراحة.
سرعان ما لفت انتباه بياض الثلج الحجم الصغير لكل شيءٍ في الكوخ، فالملاعق والكؤوس والأواني والأثاث كلّها كانت صغيرة، وفي الوقت نفسه كانت مرتّبةً ونظيفًة أيُّما ترتيب ونظافة. وعلى الطاولة في المطبخ وُضعت سبعة صحون، على كل صحنٍ منها ملعقةٌ صغيرةٌ وسكينٌ وشوكةٌ، بالإضافة إلى سبعة أكوابٍ؛ كل كوب منها وضع بشكل مرتّب إلى جانب صحن. وفي الجهة المقابلة للمطبخ، كانت هناك سبعة أسرّةٍ صغيرةٍ تصطفّ إلى جانب الحائط مغطّاةٌ بشراشف ناصعة البياض.
كانت بياض الثلج في تلك اللحظة تتضور جوعاً وعطشاً، فلم تقاوم منظر ورائحة الخبز والخضار التي في الصحون، فأكلت منها قليلاً، وشربت عصير العنب؛ رشفةً من كل كوب، ثم ألقت بنفسها على السرير الذي لاءمها من الأسرّة السبعة، وغطّت في نوم عميق.
عندما دخل الليل وحلّ الظلام، عاد مالكو الكوخ إلى منزلهم؛ كانوا سبعة أقزام يعملون في التنقيب عن المعادن النفيسة والأحجار الكريمة في الجبال المحيطة بكوخهم. وفور دخولهم إلى الكوخ أشعل كل واحدٍ منهم شمعةً، فأصبح الكوخ مضاءً مما جعلهم ينتبهون إلى أن أحداً ما قد دخل الكوخ، فالأشياء ليست بالترتيب المعتاد الذين يعرفونه جيداً، فأخذوا يتساءلون:-
قال القزم الأوّل: من الذي كان يجلس على كرسيّي؟
قال القزم الثاني: من الذي كان يأكل من صحني؟
قال القزم الثالث: من الذي أخذ بعضاً من خبزي؟
قال القزم الرابع: من الذي أكل من خضرواتي؟
قال القزم الخامس: من الذي استخدم شوكتي؟
قال القزم السادس: من الذي استخدم سكّيني؟
قال القزم السابع: من الذي شرب من كوبي؟
لم تستفق بياض الثلج من النوم على الرغم من الجلبة التي أحدثها دخول الأقزام إلى المنزل لشدّة إرهاقها، وبعد أن لاحظ الأقزام أن أحد الأسرّة فراشه ليس مرتّباً، وفيه تجويف يشي بوجود أحد فيه، انتبه أحدهم إلى بياض الثلج التي كانت نائمة في ذلك السرير، ونادى الآخرين لينظروا إلى هذه الطفلة التي ما إن اقتربوا منها بشمعاتهم، حتى بانت بياض الثلج تحت الضوء الساقط من الشمعات بجمالها الفتّان. وتنهّد الأقزام السبعة جميعهم مأخوذين بجمال هذه الطفلة اللطيفة، وحرصوا على ألا يوقظوها من نومها، فتركوها على السرير، ونام القزم الذي أخذت بياض الثلج مكانه بجانب أصدقائه.
عندما استفاقت بياض الثلج في الصباح، فزعت لرؤية الأقزام السبعة يحدقون بها، إلّا أن اللطف الذي أظهره كل واحد منهم عند الحديث معها جعلها تطمئن. وأخذ الأقزام يطرحون الأسئلة على بياض الثلج؛ ما اسمك؟ ومن أين جئت؟ وما الذي جاء بك إلى هنا؟ وما هي قصتك؟ أجابتهم بياض الثلج عن أسئلتهم، وأخبرتهم بقصة زوجة أبيها الشرّيرة، وكيف طلبت من الصيّاد أن يأخذها إلى الغابة ويقتلها، إلى آخر القصّة التي حدثت معها.
عندما انتهت بياض الثلج من سرد قصّتها على الأقزام، قدّموا لها عرضاً وجدته بياض الثلج لطيفاً جدّاً؛ فقد عرضوا عليها أن تبقى في الكوخ الذي يسكنون فيه، وأن يقدموا لها الطعام والشراب والدفء، مقابل أن تعتني هي بالمنزل وبتنظيفه وترتيبه، وأن تطهو لهم الطعام، وتحيك لهم ملابسهم، وترتّب أسرّتهم، وقد قبلت بياض الثلج عرض الأقزام بكل سعادة وصدر رحب.
خرج الأقزام إلى الجبل للتنقيب عن المعادن النفيسة كعادتهم، وعندما عادوا في المساء وجدوا العشاء جاهزاً وساخناً ولذيذاً. وبعد العشاء توجّه أحد الأقزام إلى بياض الثلج مخاطباً إياها بلهجة تحذيريّة، قائلاً لها أن تأخذ حذرها ولا تسمح بدخول أحدٍ إلى الكوخ؛ فزوجة أبيها عاجلاً أم آجلاً ستعلم بمكان بياض الثلج، وستعلم أنها لم تمت، وستأتي إليها كي تقتلها بنفسها.
عندما عاد الصياد بقلب الغزال الذي أحضره للملكة على أنه قلب بياض الثلج، فرحت الملكة وركضت من فورها إلى مرآتها السحريّة، وسألتها السؤال المعتاد: "يا مرآتي يا مرآتي، أخبريني، من هي أجمل امرأة في الدنيا؟" فأجابت المرآة: "ما زالت بياض الثلج هي أجمل الفتيات على الأرض، وها هي تعيش بكامل حسنها في كوخ الأقزام بعيداً في الغابة." استشاطت الملكة غضباً، وأخذت تصيح: "لا بد أن تموت بياض الثلج، لا بد أن تموت".
ثم تخفّت الملكة في ثياب فلاحةٍ مسنّةٍ، ووضعت بعض السّم في تفاحةٍ ووضعتها في سلّة مع تفاحات أخرى، وانطلقت حاثّة الخطى إلى الكوخ الذي تقيم فيه بياض الثلج، وعبرت المستنقعات والأشجار التي واجهتها في الطريق دون اكتراث، إلى أن وصلت إلى ضفة نهر، حيث يقع كوخ الأقزام على الجهة المقابلة له، في تلك اللحظة كانت بياض الثلج تلوّح بيدها للأقزام الذين كانوا يبتعدون عن الكوخ في طريقهم إلى العمل.
سمعت بياض الثلج طرقات على الباب أثناء عملها في المنزل؛ فاقتربت من الباب وسألت بحذر متذكرة نصيحة الأقزام: "من بالباب؟" فجاء صوت امرأة من خلف الباب قائلا: "أنا بائعة التفّاح". أجابت بياض الثلج "شكراً يا سيدتي، أنا لا أريد تفّاحاً، كما أنّني لا أستطيع فتح الباب لأي أحدٍ، تلك تعليمات أصحاب الكوخ". فأجابت المرأة: "يا لك من فتاة مهذّبة، إذا كانت تلك هي تعليمات أصحاب المنزل فأحسنت صنعاً باتّباعك إياها، ولأنك فتاة مهذّبة وأمينة، سأهديك إحدى أجمل وألذ التفاحات التي معي!". فتحت بياض الثلج شقّاً صغيراً من الباب، وتناولت التفاحة، وبدأت تقضم منها، وبعد أقل من ثلاث قضمات، وقعت بياض الثلج على الأرض غائبة عن الوعي بأثر السم الزعاف في التفّاحة. بعد أن شهدت الملكة الشريرة ما حدث، انطلقت هاربةً في طريق العودة إلى القصر، وفي طريقها تعثّرت وهي تعبر المستنقع، وعلقت في الرمال المتحرّكة التي ابتلعتها، ولم يسمع صراخها أحد، فغارت في الأرض دون أن يكون هناك أي أثرٍ لها.
في تلك الأثناء أصبح الجو عاصفاً والمطر شديداً، فشعر الأقزام بالقلق على بياض الثلج التي كانت وحيدةً في الكوخ، فقرّروا العودة للاطمئنان عليها. ولما وصلوا المنزل، صعقوا من منظر بياض الثلج وهي ملقاةٌ على الأرض بلا حراك، والتفاحة إلى جانبها. حاول الأقزام فعل أي شيءٍ لجعلها تستفيق ولكن دون جدوى.
وقف الأقزام فوق جسد بياض الثلج المسجّى على الأرض يحاولون علاج علّتها ولكن دون جدوى، فأخذوا يبكون بحرقةٍ على فقدانها، ثم وضعوها في تابوتٍ مصنوع من الزجاج، وملؤوه بالورود والزهور، وانطلقوا بها إلى الغابة ووضعوها إلى جانب أرضٍ مزروعةٍ بأنواعٍ مختلفةٍ من الأزهار، وصاروا يزورونها كل يوم، ويضعون في كل زيارةٍ لها زهرةً على تابوبتها.
وذات يوم ذهب الأقزام كعادتهم إلى تابوت بياض الثلج الزجاجي ليضعوا عليه زهرة، فوجدوا شابّاً وسيماً يقف إلى جانب التابوت ويحدّق في وجه بياض الثلج، فسألوه عمّا يفعل هنا، فأخبرهم أنّه أحد الأمراء، وأنّه مر بجانب التابوت، وسُحِرَ بجمال بياض الثلج، وأنّه يود لو يستطيع أخذها إلى القصر؛ علّ الأطباء هناك يستطيعون مساعدتها. ثم فتح الأمير التابوت على بياض الثلج، وقبّلها.
وحدث شيءٌ أذهل الجميع، فما إن قبّل الأمير بياض الثلج، حتّى فتحت عيونها واستفاقت من غيبوبتها، فقد خرجت قطعة التفاح المسمومة من حلقها. سرّ الجميع بنجاة بياض الثلج من الموت، لا سيما الأمير الذي أحبّها وأحبّته، فطلب يدها للزواج ووافقت هي بدورها. وذهبت بياض الثلج مع الأمير لتعيش معه زوجة في قصره، وودّعها الأقزام على مضض، وأخبروها كم أحبّوا إقامتها معهم. ومنذ ذلك اليوم، عاشت بياض الثلج في قصر الأمير، ولكنّها لم تنسَ الأقزام والغابة والكوخ، وحافظت على زيارتهم من وقت لآخر، وقضاء بعض الوقت معهم.